سورة العنكبوت - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


يقول الحق جل جلاله: {ويستعجلونك بالعذاب}، كقولهم: أمطر علينا حجارة من السماء، {ولولا أجلٌ مسمىًّ} المضروب لعذاب كل قوم، أو: القيامة، أو: يوم بدر، أو: وقت فنائهم بأجلهم. والمعنى: ولو أجل قد سمّاه الله وعيَّنه في اللوح المحفوظ، {لجاءهم العذاب} عاجلاً. والحكمة تقتضي تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى، {وليأتينهم} العذاب في الأجل المسمى {بغتةً}: فجأة {وهم لا يشعرون} بإيتانه.
{يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} أي: لتحيط بهم، أو: هي كالمحيطة بهم، لإحاطة أسبابها بهم من الكفر والمعاصي. واللام للعهد، على وضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على موجب الإحاطة، وهو الكفر، أو الجنس، فيدخل المخاطبون دخولاً أولياً. وتكرير استعاجلهم؛ لاختلاف ما يترتب على كل واحد، فرتب على الأول حكمة تأخيره، وعلى الثاني تهديهم وزجرهم عنه.
ثم قال تعالى: {يوم يغشاهم العذابُ من فوقهم ومن تحت أرجلهم}، هذا وقت إحاطتها بهم، أي: تحيط من جميع جوانبهم، كقوله: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16]. {ويقولوا ذُوقوا ما كنتم تعملون} أي: باشروا جزاء أعمالكم.
الإشارة: ما قيل في حق استعجل العذاب من الأنبياء، يقال في حق استعجله من الأولياء، بحيث يؤذيهم ويقول: ليُظهروا ما عندهم، فهذا حمق كبير، ولا بد أن يلحقه وبال ذلك، عاجلاً، أو آجلاً، إما ظاهراً أو باطناً، وقد لا يشعر، وقد يسري ذلك إلى عَقبه، فيصيبه ذلك الوبال، كما أصاب أباه والعياذ بالله من التعرض لأوليائه.


يقول الحق جل جلاله: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعةً}، فإذا لم يتيسر لكم إقامةُ دينِكُمْ في بلد، فاخرجوا منها إلى أرض يتهيأ لكم فيها استقامة دينكم، والبقاع تتفاوت في ذلك تفاوتاً كبيراً، والناس مختلفون، فأهل الشرائع يطلبون البقاع التي يتيسر لهم فيها استقامة ظواهرهم، كالمدن والقرى الكبار، التي يكثر فيها العلم وأهله. وأهل الحقائق من الصوفية يطلبون البقاع التي تسلم فيها قلوبهم من العلائق والشواغل، أينما وجدوها عمروها، إن تهيأ لهم الاجتماع على ربهم. وعن سهل رضي الله عنه: إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض، فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فرّ بدينه من أرض، إلى ارض وإن كان بشيراً، استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام».
{فإياي فاعبدون} أي: فخصوني بالعبادة. وإياي: مفعول لمحذوف، ومفعول اعبدوني: الياء المحذوفة، أي: فاعبدوا إياي، فاعبدوني. والفاء: جواب الشرط، محذوف، إذ المعنى، إن أرضي واسعة، فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض، فاخلصوا لي في غيرها.
ثم شجع المهاجرين بقوله: {كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت}، أي: واجدة مرارته وكربه؛ لأنها إذا تيقنت بالموت؛ سهل عليها مفارقة وطنها. {ثم إلينا تُرجعون} بالموت، فتجاوزن على ما أسلفتم. ومن عَلِمَ أن هذا عاقبته، ينبغي أن يجتهد في الاستعداد له، فإن لم يتهيأ في أرض فليهاجر منها.
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم}؛ لنُنزلنهم {من الجنة غُرَفاً}؛ علالي، عالية، وقرأ حمزة والكسائي: {لنثوينهم}؛ لنقيمنهم، من الثَّوَى، وهو الإقامة، وثوى: غَيْرُ متعد، فإذا تعدى؛ بزيادة الهمزة لم يجاوز مفعولاً واحداً. والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف: إما إجراؤه مجرى لننزلنهم، أو: بحذف الجار، وإيصال الفعل، أو: شبه الظرف المؤقت، بالمبهم، أي: لنقيمنهم في غرف {تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها نِعْمَ أجرُ العاملين} أجرهم هذا. وهم {الذين صبروا} على مفارقة الأوطان وأذى المشركين، وعلى المحن والمصائب، ومشاق الطاعات، وترك المحرمات، {وعلى ربهم يتوكلون}، أي: لم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله، فكفاهم شأنهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: كل من لم يَتَأَتَّ له جَمْعُ قَلْبِهِ في بلده؛ فليهاجر منها إلى غير، وليسمع قول سيده: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة}، فإن شق عليه مفارقة الأوطان، فليذكر مفارقته للدنيا في أقرب زمان. وكان الصدِّيق رضي لَمَّا هاجر إلى المدينة، وأصابته الحمى، يتسلى بذكر الموت، ويُنشد:
كُلُّ امْرِىءٍ مُصَبَّحٌ في أَهْلهِ *** والمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وقد أكثر الناس في الوعظ بالموت وهجومه، نظماً ونثراً، فمن ذلك قول الشاعر:
المَوْتُ كَأسٌ وكُلُّ النَاس شَارِبُه *** والقَبْرُ بَابٌ وكُلُّ الناس دَاخِلُهُ
وقال آخر:
اعْلَمْ بِأَنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ قَاطِعَةٌ *** بِكُلِّ مُدِّرع فِيهَا وَمُتَّرِسِ
ركوبُك النعشُ يُنْسِيكَ الرُّكُوبَ إلى *** مَا كُنْتَ تَرْكَبُ مِنْ نَعْلٍ ومَنِ فَرَسِ
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ طَرِيَقَتَهَا *** إنَّ السَّفَينَةَ لاَ تَجْرِيَ علَى يَبَسِ
إلى غير ذلك مما يطول.


يقول الحق جل جلاله: {وكأيِّن من دابة} أي: وكم دابة من داوب الأرض، عاقلة وغير عاقلة، {لا تحملُ رِزْقَها}؛ لا تطيق أن تحمله؛ لضعفها عن حمله، {اللهُ يرزقها وإياكم} أي: لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله، ولا يرزقكم أنتم أيها الأقوياء إلا الله، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها؛ لأنه لو لم يخلق فيكم قدرة على كسبها، لكنتم أعجز من الدواب. وعن الحسن: {لا تحمل رزقها}: لا تدخره، إنما تصبح خِمَاصاً، فيرزقها الله. وقيل: لا يدخر من الحيوان قوتاً إلا ابن آدم والفأرة والنملة. {وهو السميع} لقولكم: نخشى الفقر والعيْلة إن هاجرنا، {العليم} بما في ضمائركم من خوف فوات الرزق.
ثم ذكر دلائل قدرته على الرزق وغيره فقال: {ولئن سألتهم} أي: المشركين وغيرهم {مَنْ خَلَقَ السماوات والأرض} على كبرهما وسعتهما، {وسخَّرَ الشمسَ والقمرَ} يجريان في فلكهما، {ليقولُنَّ اللهُ}؛ لا يجدون جواباً إلا هذا، لإقرارهم بوجود الصانع، {فأنى يؤفكون}؛ فكيف يُصرفون عن توحيد الله؟ مع إقرارهم بهذا كله، إذ لوتعدد الإله لفسد نظام العالم.
{الله يَبسُطُ الرِزْقَ لمن يشاءُ من عباده} هاجر أو أقام في بلده، {ويقدرُ له}؛ ويضيق عليه، أقام أو هاجر، فالضمير في {له} لمن يشاء؛ لأنه مبهم غير معين، {إن الله بكل شيء عليم}؛ يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم، فمنهم من يصله الفقر، ومنهم من يُفسده، ففي الحديث القدسي: «إن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلى الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك» ذكره النسفي.
{ولئن سألتهم من نزَّل من السماءِ ماء فأحيا به الأرضَ من بعد موتها ليقولن اللهُ}؛ معترفين بأنه الموجد للكائنات بأسرها، أصولها وفروعها، ثم إنهم يُشركون به بعض مخلوقاته الذي هو أضعف الأشياء. {قل الحمد لله} على إظهار قدرته، حتى ظهرت لجميع الخلق، حتى أقرت بها الجاهلية الجهلاء. أو: على ما عصمك مما هم عليه، أو: على تصديقك وإظهار حجتك، أو: على إنزاله الماء لإحياء الأرض، {بل أكثرُهُم لا يعقلون}؛ لا عقول لهم، فلا يتدبرون فيما يُريهم من الآيات ويقيم عليهم من الدلالات.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: الرزق مضمون بيد من أَمْرِ بين الكاف والنون، لا يزيد بحرص قوي، ولا ينقص بعجز ضعيف، بل قد ينعكس الأمر، كما الشاعر:
كَمْ قَوِيٍّ قَوِيٍّ في تقلبه *** ترى عَنْهُ أَمْرَ الرَّزْقِ يَنْحَرفُ
وكم ضعيفٍ ضعيفٍ في تصرفه *** كأنه من خليجِ البحرِ يَغْتَرِفُ
وقد يبسطه الله لأهل الغفلة والبُعد، ويقدره لأهل الولاية والقُرب، كما قال القائل:
اللهَ يَرْزُق قَوْماً لاَ خَلاَقَ لَهُمْ *** مِثْلَ الْبَهَائِمِ في خَلْقِ التَّصَاوِيرِ
لَوْ كَانَ عَنْ قُوَّةٍ أَوْ عَنْ مُغَالَبَةٍ *** طَارَ البُزَاةُ بِأرْزَاقِ الْعَصَافِيرِ
وقال عليه الصلاة والسلام- في بعض خطبه-: «أيها الناس، إن الرزق مقسوم، لن يعدو امْرُؤٌ ما كُتِبَ له، فاتقوا الله، وأَجْمِلُوا في الطَلَبِ. وإن الأمر محدود، لن يجاوز أحد ما قُدر له، فبادروا قبل نفود الأجل، وإن الأعمال محصاة، لن يُهْمَلَ منها صغيرةٌ ولا كبيرةٌ، فأكثروا من صالح الأعمال...» الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: «لو توكلتمْ على الله حقَّ توكلِهِ، لرَزقتم كما تُرزق الطير؛ تغدو خِمَاصاً وتروح بِطَانا».

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8